الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)
.مقدمة الكتاب: مقدمة المؤلف: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك من تشاء وتعز من تشاء وتذلك من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب}. فسبحان الله من إله حكيم قادر، ومليك مقتدر قاهر، يعطي العاجز الحقير، ويمنع البطل الأيد الكبير، ويرفع الخامل الذليل، ويضع ذا العز المنيع والمجد الأثيل، ويعز المحتقر الطريد المجفو الشريد، ويذل أولي الحد الحديد، والعد العديد، وأرباب الألوية والبنود، ومالكي أزمة العساكر والجنود، ويؤتي ملكه من لم يكن شيئاً مذكورا، ولا عرف له أبا نبيها وجدا مشهوراً، بل نشأ كلاًّ على مولاه وخادما لسواه، تجبهه وتشنؤه الناس، ولا يرعاه سائر الأجناس، لا يقدر على نفع نفسه فضلا عن الغير، ولا يستطيع دفع ما ينزل به من مساءة وضير، عجزا وشقاء وخمولا واختفاء، وينزع نعت الملك ممن تهابه أسد الشرى في غِيلها، وتخضع لجلالته عتاة الأبطال يقظّها وقِظيظها، وتخنع لخنزوانة سلطانه حماة الكماة بجمعها وجميعها، وتذل لسطوته ملوك الجبابرة وأقيالها، ويأتمر بأوامره العساكر الكثيرة العدد، ويقتدي بعوائده الخلائق مدى الأبد. والحمد لله على حالتي منعه وعطائه، وابتلاءه وبلائه، وسراته وضرائه، ونعمه وبأسائه، أهل الثناء والمجد، ومستحق الشكر والحمد: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون}، {بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون} ولا إله إلا الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي {لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد} والله أكبر، {لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} ولا تدرك من عظمته العقول إلا ما أخبر به عنه الرسل والأنبياء. وصلى الله على نبينا محمد الذي أذهب الشرك من الأكاسرة، ومحا بشريعته عظماء الروم القياصرة، وأزال بملته الأصنام والأوثان، وأخمد بظهوره بيوت النيران، وجمع له أسود العب وقد كانت في جزيرتها متفرقة، ولم ببركته شعثها بعدما غبرت زماناً وهي متمزقة، وألف قلوبها على موالاته وطاعته، وحبب إليها المبادرة إلى مبايعته على الموت ومتابعته، فتواصلوا بعد القطعية والتدابر، وتحابوا في الله كأن لم ينشئوا على البغضاء والتنافر، حتى صاروا باتباع ملته، والإقتداء بشريعته، من رعاية الشاء والبعير، إلى سياسة الجم الغفير، وبعد اقتعاد سنام الناقة والقعود، وملازمة بيت الشعر والعمود، وأكل القصوم والشيح، ونزول القفر الفسيح، إلى ارتقاء المنابر والسرير، وتوسد الأرائك على الحرير، وارتباط المسومة الجياد، واقتناء ما لا يحصى من الخدم والعتاد، بما فتح الله عليهم من غنائم ملوك الأرض، الذين أخذوهم بالقوة والقهر، وحووا ممالكهم بتأييد الله لهم والنصر، وأورثوها أبناء أبنائهم، وأحفادهم وأحفاد أحفادهم. فلما خالفوا ما جاءهم به رسولهم من الهدى، أحلهم الرزايا المجيحة والردى، وسلط عليهم من رعاع الغوغاء وآحاد الدهماء من ألحقهم بعد الملك بالهلك، وحطهم بعد الرفعة، وأذلهم بعد المنعة، وصيرهم من رتب الملوك إلى حالة العبد المملوك، جزاء بما اجترحوا من السيئات، واقترفوا من الكبائر الموبقات، واستحلوا من الحرمات، واستهواهم به الشيطان من إتباع الشهوات، وليعتبر أولو البصائر والأفهام، ويخشى أهل النهى مواقع نقم الله العزيز ذي الانتقام، لا إله إلا هو سبحانه. أما بعد: فإنه لما يسر الله وله الحمد، بإكمال كتاب عقد جواهر الأسفاط من أخبار مدينة الفسطاط، وكتاب اتعاظ الحنفاء بأخبار الخلفاء، وهما يشتملان على ذكر من مَلَكَ مصر من الأمراء والخلفاء، وما كان في أيامهم من الحوادث والأنباء، منذ فتحت إلى أن زالت الدولة الفاطمية وانقرضت، أحببت أن أصل ذلك بذكر من ملك مصر بعدهم من الملوك الأكراد الأيوبية، والسلاطين المماليك التركية والجركسية، في كتاب يحصر أخبارهم الشائعة، ويستقصي أعلمهم الذائعة، ويحوى أكثر ما في أيامهم من الحوادث والماجريات، غير معتن فيه بالتراجم والوفيات، لأني أفردت لها تأليفاً بديع المثال بعيد المنال، فألفت هذا الديوان، وسلكت فيه التوسط بين الإكثار الممل والاختصار المخل، وسميته كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك. وبالله أستعين فهو المعين، وبه أعتضد فيما أريد وأعتمد، فإنه حسبي ونعم الوكيل. .سنة ثمان وستين وخمسمائة: وفيها سار الملك المعظم شمس الدولة فخر الدين تورانشاه بن أيوب أخو السلطان صلاح الدين، إلى بلاد النوبة، وفتح قلعة إبريم وسبى وغنم، وعاد إلى أسوان، وأقطع إبريم رجلا يعرف بإبراهيم الكردي، فسار إليها في عدة من الأكراد، وانبثوا يشنون الغارات على بلاد النوبة، حتى امتلأت أيديهم بالأموال والمواشي بعد فقر وجهد فوافى كتاب ملك النوبة إلى شمس الدولة وهو بقوص مع هدية، فأكرم رسوله وخلع عليه، وأعطاه زوجين من نشاب، وقال له: قل للملك مالك عندي جواب إلا هذا وجهز معه رسولا ليكشف له خبر البلاد، فسار إلى دمقلة وعاد إليه، فقال: وجدت بلادا ضيقة، ليس بها من الزرع سوى الذرة ونخل صغير منه أدامهم، ويخرج الملك وهو عريان على فرس عرى، وقد التف في ثوب أطلس، وليس على رأسه شعر. فلما قدمت عليه وسلمت ضحك وتغاشى، وأمر بي فكويت على يدي هيئة صليب، وأنعم علي بنحو خمسين رطلا من دقيق وليس في دمقلة عمارة سوى دار الملك، وباقيها أخصاص. وفيها عظم هم السلطان نور الدين بأمر مصر، وأخذه من استيلاء صلاح الدين عليها المقيم المقعد، وأكثر من مراسلته بحمل الأموال، ثم بعث بوزيره الصاحب موفق الدين خالد بن محمد بن نصر بن صغير القيسراني إلى مصر، لعمل حساب البلاد، وكشف أحوالها، وتقرير القطيعة على صلاح الدين في كل سنة، واختيار طاعته، فقدم إلى القاهرة وكان من أمره ما يأتي ذكره إن شاء الله. وفيها مات أيوب بن شادي بن مروان بن يعقوب نجم الدين الملقب بالملك الأفضل أبي سعيد الكردي، والد السلطان صلاح الدين يوسف وذلك أنه خرج من باب النصر بالقاهرة، قألقاه الفرس إلى الأرض يوم الثلاثاء ثامن عشر ذي الحجة، فحمل إلى داره في تاسع عشره وقيل لثلاث بقين منه، فقبر عند أخيه أسد الدين شيركوه، ثم نقلا إلى المدينة النبوية في سنة ثمانين وخمسمائة. .سنة تسع وستين وخمسمائة: فشق ذلك عليه وقال: إلى هذا الحد وصلنا؟ وأوقفه على ما تحصل له، وعرض عليه الأجناد، وعرفه مبالغ إقطاعاتهم وجامكياتهم، ورواتب نفقاتهم ثم قال: وما يضبط هذا الإقليم العظيم إلا بالمال الكبير، وأنت تعرف أكابر الدولة وعظماءها، وأنهم معتادون بالنعمة والسعة، وقد تصرفوا في أماكن لا يمكن انتزاعها منهم، ولا يسمحون بأن ينقص من ارتفاعها، وأخذ يجمع المال. وفيها سار الأمير شمس الدولة تورانشاه، أخو السلطان صلاح الدين، إلى اليمن وذلك لشدة خوف صلاح الدين وأهله من الملك العادل نور الدين أن يدخل إلى مصر وينتزعهم منها، فأحبوا أن يكون لهم مملكة يصيرون إليها. وكان اختيارهم قد وقع على النوبة، فلما سار إليها لم تعجبه وعاد. وكان الفقيه عمارة اليماني قد انقطع الى الأمير شمس الدولة، ومدحه واختص به، وحدثه عن بلاد اليمن وكثرة الأموال بها، وهون أمرها عنده، وأغراه بأن يستبد بملك اليمن، وتعرض لذلك في كلمته التي أولها: ومنها: وكان شمس الدولة مع ذلك جوادا كثير الإنفاق، فلم يقنع بما له من الإقطاع بمصر، وأحب الوسع، فاستأذن صلاح الدين في المسير، فأذن له واستعد لذلك، وجمع وحشد، وسار مستهل رجب. فوصل إلى مكة فزار، ثم خرج منها يريد اليمن، وبها يومئذ أبو الحسن علي بن مهدى ويقال له عبد النبي. فاستولى على زبيد في سابع شوال، وقبض على عبد النبي، وأخذ ما سواها من مدائن اليمن، وتلقب بالملك المعظم، وخطب له بذلك بعد الخليفة المستضيء بأمر الله في جميع ما فتحه، وبعث إلى القاهرة بذلك. فسير السلطان صلاح الدين إلى الملك العادل يعلمه بذلك، فبعث بالخبر إلى الخليفة المستضيء ببغداد. وفي سادس شعبان: قبض على أولاد العاضد وأقاربه، وأخرجوا من القصر إلى دار المظفر بحارة برجوان، في العشر الأخير من رمضان. وفيها اجتمع طائفة من أهل القاهرة على إقامة رجل من أولاد العاضد، وأن يفتكوا بصلاح الدين، وكاتبوا الفرنج، منهم القاضي المفضل ضياء الدين نصر الله بن عبد الله بن كامل القاضي، والشريف الجليس، ونجاح الحمامي، والفقيه عمارة بن علي اليماني، وعبد الصمد الكاتب، والقاضي الأعز سلامة العوريس متولي ديوان النظر ثم القضاء، وداعي الدعاة عبد الجبار بن إسماعيل بن عبد القوى والواعظ زين الدين بن نجا، فوشى ابن نجا بخبرهم إلى السلطان، وسأله في أن ينعم عليه بجميع ما لابن كامل الداعي من الدور والموجود كله، فأجيب إلى ذلك، فأحيط بهم وشنقوا في يوم السبت ثاني شهر رمضان بين القصرين، فشنق عمارة وصلب فيما بين بابي الذهب وباب البحر، وابن كامل ش رأس الخروقيين التي تعرف اليوم بسوق أمير الجيوش، والعوريس على درب السلسلة، وعبد الصمد وابن سلامة وابن المظبي ومصطنع الدولة والحاج ابن عبد القوي بالقاهرة، وشنق ابن كامل القاضي بالقاهرة يوم الأربعاء تاسع عشر شوال، وشنق أيضا شبرما وأصحابه وجماعة من الأجناد والعبيد والحاشية وبعض أمراء صلاح الدين، وقبض صلاح الدين سائر ما وجد عندهم من مال وعقار، ولم يمكن ورثتهم من شيء البتة، وتتبع من له هوى في الدولة الفاطمية، فقتل منهم كثيرا وأسر كثيرا، ونودي بأن يرحل كافة الأجناد وحاشية القصر وراجل السودان إلى أقصى بلاد الصعيد وقبض على رجل يقال له قديد بالإسكندرية، من دعاة الفاطميين، يوم الأحد خامس عشرى رمضان، وقبض على كثير من السودان، وكووا بالنار في وجوههم وصدورهم. وفيها جهز السلطان مع الوزير ابن القيسراني ما تحصل عنده من المال، وأصحبه هدية لنور الدين، وهي خمس ختمات إحداها فى ثلاثين جزءا، مغشاة بأطلس أزرق ومضببة بصفائح ذهب، وعليها أقفال من ذهب مكتوبة بخط ذهب، وأخرى في عشرة أجزاء مغشاة بديباج فستقي، وأخرى في جلد بخط ابن البواب بقفل ذهب وثلاثة أحجار بلخش، منها حجر زنته اثنان وعشرون مثقالا، وحجر وزنه اثنا عشر مثقالا، وآخر عشرة مثاقيل ونصف وست قصبات زمرد إحداها وزنها ثلاثة مثاقيل، وحجر ياقوت أحمر، وزنه سبعة مثاقيل، وحجر ياقوت أزرق وزنه ستة مثاقيل، ومائة عقد جوهر زنتها ثمانمائة وسبعة وخمسون مثقالا، وخمسون قارورة دهن بلسان، وعشرون قطعة بلور، وأربع عشرة قطعة جزع ما بين زبادي وسكارج، وإبريق يشم وطشت يشم، وسقرق مينا مذهب، بعروة فيها حبتا لؤلؤ وفي الوسط فص ياقوت أزرق، وصحون وزبادي وسكارج من صيني عدتها أربعون قطعة، وعود قطعتين كبارا، وعنبر منه قطعة زنتها ثلاثون رطلا، وأخرى عشرون رطلا، ومائة ثوب أطلس، وأربعة وعشرون بقيارا مذهبا وأربعة وعشرون ثوبا وشيا حريرية بيضاء، وحلة خلفي مذهب، وحلة مرايش أصفر مذهب، وحلة مرايش أزرق مذهب، وحلة مرايش بقصب أحمر وأبيض، وحلة فستقي بقصب مذهبة، وقماش كثير، قدر قيمتها بمائتي ألف دينار وخمسة وعشرين ألف دينار. وساروا بذلك، فبلغهم موت نور الدين، فأعيدت وهلك بعضها. وفيها مات السلطان العادل نور الدين محمود بن زنكي، في يوم الأربعاء حادي عشر شوال، بعلة الخوانيق، وكان قد تجهز لأخذ مصر من صلاح الدين يوسف بن أيوب، وقد خطب له بالشام ومصر والحرمين واليمن. وقام من بعده ابنه الصالح إسماعيل وعمره إحدى عشرة سنة، فخطب له السلطان صلاح الدين بمصر، وضرب السكة باسمه وفيها نزل أسطول الفرنج بصقلية على ثغر الإسكندرية، لأربع بقين من ذي الحجة بغتة، وكان الذي جهز هذا الأسطول غليالم بن غليالم بن رجار متملك صقلية، ولي ملك صقلية بعد أبيه في سنة ستين وخمسمائة وهو صغير، فكفلته أمه، وتولى التدبير خادم اسمه باتر مدة سنة، ثم فر إلى السيد أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن صاحب البلاد المغربية. ثم استبد غليالم بتدبير ملكه، واحتفل في سنة إحدى وسبعين بعمارة هذا الأسطول، فاجتمع له ما لم يجتمع لجده رجار، وحمل في الطرائد ألف فارس. وقدم على الأسطول رجلا من دولته يسمى أكيم موذقة، وقصد الإسكندرية، ومات غليالم في سنة إحدى وثمانين وخمسمائة. ولما أرسى هذا الأسطول على البر، أنزلوا من طرائدهم ألفا وخمسمائة فرس، وكانت عدتهم ثلاثين ألف مقاتل، ما بين فارس وراجل، وعدة طرائدهم ستا وثلاثين طريدة تحمل الخيل، ومائتي شيني في كل شيني مائة وخمسون رجلا، وعدة السفن التي تحمل آلات الحرب والحصار ست سفن، وللتى تحمل الأزواد والرجال أربعين مركبا، فكانوا نحو الخمسين ألف راجل. ونزلوا على البر مما يلي المنارة، وحملوا على المسلمين حتى أوصلوهم إلى السمور، وقتل من المسلمين سبعة. وزحفت مراكب الفرنجة إلى الميناء، وكان بها مراكب المسلمين فغرقوا منها. وغلبوا على البر وخيموا بها فأصبح لهم على البر ثلاثمائة خيمة، وزحفوا لحصار البلد، ونصبوا ثلاث دبابات بكباشها، وثلاثة مجانيق كبارا تضرب بحجارة سود عظيمة. وكان السلطان علي فاقوس فبلغه الخبر ثالث يوم نزول الفرنجة، فشرع في تجهيز العساكر، والقتال والرمي بالمجانيق مستمر. فوصلت العساكر، وفتحت الأبواب، وهاجم المسلمون الفرنجة، وحرقوا الدبابات، وأيدهم الله بنصره، واستمر القتال يوم الأربعاء إلى العصر، وهو الرابع من نزول الفرنجة. ثم حملوا حملة ثانية عند اختلاط الظلام على الخيام، فتسلموها بما فيها، وقتلوا من الرجالة عددا كثيرا ومن الفرسان. فاقتحم المسلمون البحر، وأخذوا عدة مراكب خسفوها فغرقت، وولت بقية المراكب منهزمة، وقتل كثير من الفرنجة، وغنم المسلمون من الآلات والأمتعة والأسلحة ما لا يقدر على مثله إلا بعناء وأقلع باقي الفرنجة مستهل سنة سبعين. وفيها، أعني سنة تسع وستين وخمسمائة وقف السلطان صلاح الدين ناحية نقادة من عمل قوص بناحية الصعيد الأعلى، وثلث ناحية سندبيس من القليوبية، على أربعة وعشرين خادما لخدمة الضريح الشريف النبوي، وضمن ذلك كتابا ثابتا تاريخه ثامن عشري شهر ربيع الآخر منها، فاستمر ذلك إلى اليوم. وكان قاع النيل ستة أذرع وعشرين أصبعا، وبلغ سبعة عشر ذراعا وعشرين أصبعا. .سنة سبعين وخمسمائة: وفيها ورد الخبر على السلطان بسير الملك الصالح مجير الدين إسماعيل بن نور الدين إلى حلب، ومصالحته للسلطان سيف الدين غازي صاحب الموصل، فأهمه وخرج يريد المسير إلى الشام فنزل ببركة الجب أول صفر، وسار منها في ثالث عشر ربيع الأول، على صدر وأيلة، في سبعمائة فارس، واستخلف على ديار مصر أخاه الملك العادل. ونزل بصرى وخرج منها، فنزل الكسوة يوم الأحد تاسع عشري ربيع الأول، وخرج الناس إلى لقائه، فدخل إلى دمشق يوم الإثنين أول شهر ربيع الآخر، وملكها من غير مدافع. وأنفق في الناس مالا جزيلا، وأمر فنودي بإطابة النفوس وإزالة المكوس، وإبطال ما أحدث بعد نور الدين محمود من القبائح والمنكرات والضرائب، وأظهر أنه إنما جاء لتربية الصالح بن نور الدين، وأنه ينوب عنه ويدبر دولته، وكاتب الأطراف بذلك. وتسلم قلعة دمشق بعد امتناع، فأنزل بها أخاه ظهير الإسلام طغتكين بن أيوب، وبعث بالبشارة إلى القاهرة، وخرج مستهل جمادى الأولى، فنازل حمص حتى تسلمها في حادي عشرة، وامتنعت عليه قلعتها، فأقام على حصارها طائفة، وسار إلى حماة فنزل عليها في ثالث عشريه، وبها عز الدين جرديك، فسلمها إليه. وفى جمادى الأولى:ولي ابن عصرون القضاء بديار مصر. وسار صلاح الدين إلى حلب، وبعث إلى الصالح إسماعيل في الصلح مع جرديك، فأبى أصحابه ذلك، وقبضوا على جرديك وقيدوه، فبلغ ذلك صلاح الدين، وقد سار عن حماة يريد حلب، فعاد إليها. ثم سار منها إلى حلب، ونزل حبل جوش ثالث جمادى الآخرة، واستعد أهل حلب وخرجوا لقتاله، وقاتلوه قتالا شديدا إلى أول رجب. فرحل صلاح الدين يريد حمص، وقد بلغه مسير القومص ملك الفرنج بطرابلس، بمكاتبة أهل حلب، وأنه منازل لحمص. فلما ترب من حمص عاد القومص إلى بلاده، فنازل صلاح الدين قلعتها، ونصب المجانيق عليها إلى أن تسلمها بالأمان، في حادي عشري شعبان، وسار إلى بعلبك، حتى تسلم قلعتها في رابع رمضان، وعاد إلى حمص. وكانت بينه وبن أصحاب الصالح وقعة على قرون حماة، في يوم الأحد تاسع عشرة، انتصر فيها صلاح الدين، وهزمهم وغنم كل ما معهم، ولم يقتل فيها أكتر من سبع أنفس، وسار حتى نزل على حلب، وقطع الخطبة للصالح، وأزال اسمه عن السكة في بلاده، فبعث أهل الصالح إليه يلتمسون منه الصلح، فأجاب إليه على أن يكون له ما بدهر من بلاد الشام، ولهم ما بأيديهم منها، واستزاد منهم المعرة وكفر طاب، وكتبت نسخة يمين وعليها خط صلاح الدين، بعدما حلف وعاد إلى حماة. وكان صلاح الدين قد كتب إلى بغداد يعدد فتوحاته وجهاده للفرنج، وإعادته الخطبة العباسية بمصر واستيلاءه على بلاد كثيرة من أطراف المغرب وعلى بلاد اليمن كلها، وأنه قدم إليه في هذه السنة وفد سبعين راكبا، كلهم يطلب لسلطان بلده تقليدا. وطلب صلاح الدين من الخليفة تقليد مصر واليمن والمغرب والشام، وكل ما يفتحه بسيفه. فوافته بحماة رسل الخليفة المستضيء بأمر الله، بالتشريف والأعلام السود، وتوقيع بسلطنة بلاد مصر الشام وغيرها. فسار ونزل على بعرين ويقال بارين، وحاصر حصنها حتى تسلمه في العشرين منه، ورجع إلى حماة. وفيها تقرر العماد الأصفهاني نائبا في الكتابة عن القاضي الفاضل بسعاية نجم الدين محمد بن مصال. وسار صلاح الدين إلى دمشق ثم رحل عنها، فنزل مرج الصفر ووافته به رسل الفرنج في طلب الهدنة، فأجابهم إليها بشروط اشترطها. وأذن للعساكر في المسير إلى مصر لجدب الشام فساروا، ورجع هو إلى دمشق في محرم سنة إحدى وسبعين، وفوض أمرها إلى ابن أخيه تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب. .سنة إحدى وسبعين وخمسمائة: وفيها تجهز الحلبيون لقتال صلاح الدين، فاستدعى عساكر مصر، فلما وافته بدمشق في شعبان سار في أول رمضان، فلقيهم في عاشر شوال. وكانت بينهما وقعة تأخر فيها السلطان سيف الدين غازي صاحب الموصل، فظن الناس أنها هزيمة، فولت عساكرهم، وتبعهم صلاح الدين، مهلك منهم جماعة كثرة، وملك خيمة غازي، وأسر عالما عظيما، واحتوى على أموال وذخائر وفرش وأطعمة وتحف تجل عن الوصف. وقدم عليه أخوه الملك المعظم شمس الدولة تورانشاه بن أيوب من اليمن، فأعطاه سرادق السلطان غازي بما فيه من الفرش والآلات، وفرق الإسطبلات والخزائن على من معه، وخلع على الأسرى وأطلقهم. ولحق سيف الدين غازي بمن معه، فالتجأوا جميعا لحلب، ثم سار إلى الموصل وهو لا يصدق أنه ينجو، وظن أن صلاح الدين يعبر الفرات ويقصده بالموصل. ورحل صلاح الدين ونزل على حلب في رابع عشر شوال، فأقام عليها إلى تاسع عشره، ورحل إلى بزاعة، وقاتل أهل الحصن حتى تسلمه. وسار إلى منبج، فنزل عليها يوم الخميس رابع عشريه، ولم يزل يحاصرها أياما حتى ملكها، واخذ من حصنها ثلاثمائة ألف دينار، ومن الفضة والآنية والأسلحة ما يناهز ألفي ألف دينار. ورحل إلى عزاز، وحاصرها من يوم السبت رابع ذي القعدة إلى حادي عشر ذي الحجة، فتسلمها وأقام فيها من يثق به، وعاد إلى حلب. وفي يوم الثلاثاء رابع عشرة: وثب عدة من الإسماعيلية على السلطان صلاح الدين، فظفر بهم بعدما جرحوا عدة من الأمراء والخواص. ثم سار إلى حلب فنزل عليها في سادس عشره، وأقطع عسكره ضياعها، ؤإمر بجباية أموالها، وضيق على أهل حلب من غير قتال، بل كان يمنع أن يدخلها أحد أو يخرج منها. .سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة: وفيها أمر للسلطان ببناء السور على القاهرة والقلعة ومصر، ودوره تسعة وعشرون ألف فراع وثلاثمائة وذراعان بذراع العمل. فتولى ذلك الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدي، وشرع في بناء القلعة، وحفر حول السور خندقا عميقا، وحفر واديه وضيق طريقه. وكان في مكان القلعة عدة مساجد منها مسجد سعد الدولة، فدخلت في جملة القلعة، وحفر فيها بئرا ينزل لليها بدرج منحوتة في الحجر إلى الماء. وفيها أمر السلطان ببناء المدرسة بجوار قبر الشافعي بالقرافة، وأن تعمل خزانة الأشربة التي كانت للقصر مارستانا للمرضى، فعمل ذلك. وسار السلطان إلى الإسكندرية في ثاني عشري شعبان، ومعه ابناه الأفضل علي والعزيز عثمان، فصام بها شهر رمضان، وسمع الحديث علي الحافظ أبي الطاهر أحمد السلفى وأمر بتعمير الأسطول بها، ووقف صادر الفرنج على الفقهاء بالاسكندرية ثم عاد إلى القاهرة، فصام بها بقية رمضان. وفيها عاد شرف الدين قراقوش غلام تقي الدين إلى بلاد المغرب، وعاد فأخذ جماعة من الجند، وخرج إلى المغرب، فأمر العادل الأمير خطلبا بن موسى وإلى القاهرة بالقبض عليه، فسار إلى الفيوم وأخذه محمولا إلى القاهرة. وفيها أبطل السلطان المكس المأخوذ من الحجاج في البحر إلى مكة على طريق عيذاب وهو سبعة دنانير مصرية ونصف على كل إنسان، وكانوا يؤدون ذلك بعيذاب أو بجدة، ومن لم يؤد ذلك منع من الحج، وعذب بتعليقه بأنثييه، وعوض أمير مكة عن هذا المكس بألفي دينار، وألف أردب قمح، سوى إقطاعات بصعيد مصر وباليمن، وقيل إن مبلغ ذلك ثمانية آلاف أردب قمح تحمل إليه إلى جدة. .سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة: وفيها نزل الفرنج على حماة، فقاتلهم الناس أربعة أيام حتى رحلوا عنها، ونزلوا على حارم فحاصروها أربعة أشهر، ثم رحلوا إلى بلادهم. وفيها أطلق شرف الدين قراقوش التقوى، وسار إلى أوجلة وغرها من بلاد المغرب. وخرج السلطان في سادس عشري شعبان سنة ثلاث وسبعين من القاهرة يريد الشام، واستخلف بديار مصر أخاه العادل، فلم يزل مقيما على بركة الجب إلى أن صلى صلاة عيد الفطر. فبلغه نزول الفرنج على حماة، فأسرع في المسير حتى دخل دمشق في رابع عشري شوال، فرحل الفرنج عن حماة. ووافته بدمشق رسل الخليفة بالتشريفات. وفيها سار الفرنج إلى قلعة صدر، وقاتلوا من بها فلم ينالوا قصدا، فساروا يريدون الغارة على ناحية فاقوس، ثم عادوا بنية الحشد والعود. وفيها عصى شمس الدين بن المقدم بمدينة بعلبك على السلطان. وفيها ولد الملك الزاهد مجير الدين داود، شقيق الظاهر غياث الدين غازي بن السلطان صلاح الدين، لسبع بقين من ذي القعدة. وفيها غلت الأسعار ببلاد الشام لكثرة الجدب، واشتد الأمر بحلب. وفيها سار الأمير ناصر الدين إبراهيم، سلاح دار تقي الدين عمر في عسكر إلى بلاد المغرب، فوصل إلى قراقوش التقوى، وسارا إلى مدينة الروحان، فنازلاها أربعين يوما، حتى فتحت وقتل حاكمها، وقررا عليها أربعة عشر ألف دينار، وملكا مدينة غدامس بغير قتال، وتقرر على أهلها اثنا عشر ألف دينار، وسار إبراهيم إلى جبال نفوسة، فملك عدة قلاع، وصار إليه مال كثير ورجال، وسار البعث من عند قراقوش إلى بلاد السودان، فغنموا غنيمة عظيمة. وفيها ظهر العمل في سور القاهرة، وطلع البناء وسلكت به الطرق المودية إلى الساحل بالمقس. وفيها مات الأمير شهاب الدين محمود بن تكش الحارمي، خال السلطان صلاح الدين ونائب حماة، في سابع عشري جمادى الآخرة بحماة، وحمل إلى حلب فدفن بها، وكان شجاعا عاقلا سيوسا ممدحا.
|